مناظرة الجارية تودد للعلماء من كتاب ألف ليلة وليلة

فأقام الرّجل مع أبيه برهة من الزمان في أحسن حال، وأبوه به مسرور إلى أن بلـغ مبالغ الرّجال، فأجلسه أبوه بين يديه يوما من الأيام و قال له:" يا ولدي انـــه قد قرب الأجل و حانت وفاتي ولم يبقى غير لقاء الله عز وجلّ وقد خلفت لك ما يكفيك إلى ولد الولد من المال المتين، والضياع والأملاك والبساتيـن فاتق الله تعالى يا ولدي فيما خلفته لك، ولا تتبع إلا من رفدك". فلم يكـن إلا قليل حتى مرض الرّجــل و مات.
فجهّزه ولده أحسن تجهيز ودفنه ورجع إلى منزله وقعد للعزاء أياما وليالــي حتى نسيّ وصية أبيه وذهل لكثرة المال. فظنّ الرجل أن الدهر بقي معه على حال، وأن المال ليس له زوال، فأكل وشرب، و لذّ و طرب، و خلع ووهب، و جاد بالذهب و لازم أكل الدجاج، و فضّ ختام الزجاج، وارتاح إلى قهقهة القناني، واستماع الأغاني. و لم يزل على هذا الحال، إلى أن مال المال، وقعد الحال، وذهب ما كان لديه، ولم يبق له بعد أن اتلف مــا تلف، غير وصيفة خلّفها له والده من جملة ما خلّف.
و كانت وصيفة هذه ليس لها نظير في الحسن والجمال، والبهاء والكمال، والقدّ والاعتدال. و هي ذات فنون وآداب، وفضائل تستطاب، قد فاقت أهل عصرهـا وأوانها، وصارت أشهر من علم في افتتانها. وزادت على الملامح بالعلم والعمــل والثني والميل، مع كونها خماسية القدّ، مقارنة للسعد، بجبينين كأنهما هلال شعبان، وحاجبين أزجّين، وعينين كعيون غزلان، وأنف كحدّ الحسام، وخدّ كأنه شقائق النعمان، وفمّ كخاتم سليمان، وأسنان كأنها عنقود الجمان، وهي مع هذا كلّه فصيحة الكلام، حسنة النظام.
فقالت له الجارية:" يا سيدي احملني إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد الخامــس من بني العباس واطلب ثمني منه عشرة آلاف دينار، فان استغلاني فقل لــه:"يا أمير المؤمنين وصيفتي أكثر من ذلك، فاختبرها يعظم قدرها في عينيـــك، لأن هذه الجارية ليس لها نظير و لا تصلح إلا لمثلك:" ثمّ قالت له إياك أن تبعنـــي بدون ما قلت لك من الثمن فانه قليل في مثلي:" وكان سيّد الجارية لا يعلم قدرهــا ولا يعلم أنه ليس لها نظير في زمانها. ثمّ أنه حملها إلى أمير المؤمنين هـــارون الرشيد و قدّمها له وذكر ما قالـــت.
فقال لها الخليفة هارون الرشيد ما اسمك؟ قالت اسمي "تودّد". قال "يا تودد ما تحسنين من العلوم"؟. قالت " يا سيدي إني أعرف النحو و الشعر و الفقه و التفسير واللغة وأعرف فن الموسيقى و علم الفرائض و الحساب و القسمة و المساحة وأساطير الأوليـن وأعــرف القرآن العظيم وقد قرأته للسبع والعشر و الأربع عشر، وأعرف عدد سوره وآياتـــه وأحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وأعشاره وسجداته وعدد أحرفه وأعرف ما فيـــه من الناسخ والمنسوخ والمدنية والمكية وأسباب التنزيل، وأعرف الحديث الشريف درايــة و رواية المسند منه و المرسل، ونظرت في علوم الرياضة و الهندسة والفلسفة و علـم الحكمة و المنطق و المعاني و البيان وحفظت كثيرا من العلم و تعلقت بالشعر و ضربت بالعود وعرفت مواضع النغم فيه ومواقع حركات أوتاره وسكناتها، بالجملة فاني وصلـت إلى شيء لم يعرفه إلا الراسخون في العلـــــــــم".
فلمّا سمع الخليفة كلامها على صغر سنها تعجب من فصاحة لسانها فكتب هارون الرشيد
إلى عامل البصرة بأن يرسل إليه إبراهيم بن سيار النظّام وكان أعظم أهل زمانه فــــي
الحجة و البلاغة و الشعر والمنطق و أمره أن يحضر القرّاء و العلماء و الأطباء و المنجمين و الحكماء و المهندسين و الفلاسفة. و كان إبراهيم أعلم من الجميـــــع. فما كان إلا قليل حتى حضروا دار الخلافة وهم لا يعلمون الخبر فدعاهم أمير المؤمنيـن إلى مجلسه و أمرهم بالجلوس فجلسوا. ثم أمر أن تحضر الجارية تودّد فحضرت وأظهرت نفسها وهي كأنها كوكب ذري، فوضع لها كرسي من ذهب فسلمت ونطقت بفصاحة لسان و قالت" يا أمير المؤمنين مرّ من حضر من العلماء و القرّاء و الأطبـاء و المنجمين و الحكماء والمهندسين و الفلاسفة أن يناظرونــي"
فقال لهم أمير المؤمنين" أريد منكم أن تناظروا هذه الجارية في أمر دينها وان تدحوا حجتها في كل ما ادعته" فقالوا" السمع و الطاعة لله ولك يا أمير المؤمنين" فعند ذلك أطرقت الجارية وقالت" أيكم الفقيه المقرئ المحدث" فقال أحدهم" أنا ذلك الرجل الــذي طلبـت قالت له" اسأل عما شئت".
قال لها"أنت قرأت كتاب الله العزيز وعرفت ناسخه و منسوخه وتدبرت آياته و حروفـــه؟ قالت "نعم" فقال "أسألك عن الفرائض الواجبة و السنن القائمة، فاخبريني أيتها الجاريــــة عن ذلك و ما ربك و ما نبيك وما إمامك و ما قبلتك وما إخوانك و ما طريقتك وما منهاجك ؟ قالت" الله ربي و محمد (صلعم) نبيي و القرآن إمامي و الكعبة قبلتي والمؤمنون إخواني والخير طريقي، و السنة منهاجي".
فتعجب الخليفة من قولها و فصاحة لسانها على صغر سنها ثم قال لها " أيتها الجاريـــة اخبريني بم عرفت الله تعالى"؟ قالت " بالعقل" قال و ما العقل"؟ قالت" العقل عقــــلان عقل موهوب و عقل مكسوب، فالعقل الموهوب هو الذي خلقه الله تعالى عزّ وجلّ يهــدي به من يشاء من عباده، والعقل المكسوب هو الذي يكسبه المرء بتأدبه وحسن معرفتـه" فقال لها" أحسنت". ثم قال " أين يكون العقل؟. قالت" يقذفه الله في القلب فيصعد شعاعــه في الدماغ حتى يستقر" قال لها" أحسنت". ثم قال" أخبريني بم عرفت النبي (صلعم)"؟، قالت" بقراءة كتاب الله تعالى و بالآيات و الدلالات و البراهين و المعجزات" قال" أحسنت" فاخبريني عن الفرائض الواجبة و السنن القائمة"؟ قالت" أما الفرائض الواجبة فخمـس " شهادة أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله، وإقامة الصـلاة وإيتاء الزكاة و صوم رمضان وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا، و أما السّنـن القائمة فهي أربع" الليّل و النهار و الشمس و القمر، و هن يبنين العمر و الأمل، و ليـس يعلم ابن آدم أنهن يهدمن الأجل" قال " أحسنت" قال" اخبريني عن الصلاة ماهي"؟ قالت "الصلاة صلة بين العبد و ربه و فيها عشر خصال" تنور القلب و تضيء الوجه وترضـي الرحمن وتغضب الشيطان وتدفع البلاء وتكفي شر الأعداء و تكثر الرحمة وتدفع النقمـة وتنهي عن الفحشاء و المنكر قال" أحسنت" فلما سمع الفقيه كلامها و عرف أنها ذكيـة فطنة حاذقة عالمة بالفقه و التفسير وغير ذلك قال في نفسه" لابد من أن أتحيل عليها حتى أغلبها في مجلس أمير المؤمنين. قال: فأخبريني عن الصراط و ما طوله وما عرضه"؟ قالت:" أمّا طوله فثلاثة آلاف عام هبوط و ألف صعود و ألف استواء وهو أحدّ من السيف و أدقّ مــن الشعرة". ثمّ قال:" كم لنبيّنا محمد(صلعم) من شفاعة"؟ قالت:" له ثلاث شفاعــــــات".
قال:" فأخبريني عن أبواب جهنّم". قالت :" سبعة وهي ضمن بيتين من الشعر:
جهنّم ولظى ثمّ الحطيم كـــــذا*** عدّ ا لسّعير وكل القول في سقـــــر
وبعد ذاك جحيم ثمّ هاويـــــــة*** فذاك عدّتها في قول مختصــــــر
فلمّا سمعها الخليفة هارون الرشيد استوى قائما على قدميه وقال لها:" أحسنت و ربّ الكعبة يا تودّد".
فقال لها" يا جارية ما معنى الوضوء في اللغة"؟ قالت" الوضوء في اللغة نظافة و الخلوص من الأدناس قال " فما معني الصلاة في اللغة" قالت" الدعاء بخير" قال " فما معنى الغسل في اللغة" قالت " التطهير" قال "فما معنى الصـوم لغة" قالت " الإمساك" قال "فما معنى الزكاة لغة" قالت" الزيادة" قال "فما معنى الحـج لغة" قالت " القصد" قال " فما معنى الجهاد لغة " قالت " الدفاع" فانقطعت حجة الفقيــــه.
فقالت له الجارية:"أسألك عن بضع مسائل فأتني بجوابهم سريعا إن كنت عارفا. قال:" سليني". قالت:" فما سهام الدّين"؟ قال:" هي عشرة، الأول الشهادة وهي الملة، الثاني الصلاة وهي الفطرة، الثالث الزكاة وهي الطهارة، الرابع الصوم وهي الجنّة، الخامس الحج وهي الشريعة، السادس الجهاد وهي الكفاية، السابع والثامن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما الغيرة، التاسع الجماعة وهي الألفة، العاشر طلب العلم وهي الطريق الحميدة. قالت" أحسنت، فما أصول الإسلام"؟ قال:" هي أربعة: صحة العقد وصدق القصد وحفظ الحــــدّ والوفاء بالعهد". قالت:" بقيت مسألة أخرى فإن أجبت فذاك وإلا أخذت ثيابك". قال:" قولي يا جارية. قالت:" فما فروع الإسلام"؟ فسكت ساعة ولم يجب بشيء فقالت الجارية:" انزع ثيابك وأنا أفسّرها لك". قال أمير المؤمنين:" فسّريها وأنا أنزع لك ما عليه من الثياب". قالت:" هي اثنان وعشرون فرعا: التمسّك بكتاب الله، والاقتداء برسوله (صلعم) وكفّ الأذى، وأكل الحلال، واجتناب الحرام، وردّ المظالم إلى أهلها، والتوبة، والفقه في الدّين، وحب الخليل، وإتباع التنزيل، وتصديق المرسلين، وخوف التبديل، والتأهب للرّحيل، وقوة اليقين، والعفو عند المقدرة، والقوة عند الضعف، والصبر عند المصيبة، ومعرفة الله تعالى، ومعرفة ما جاء به نبيّه(صلعم) ، ومخالفة اللعين إبليس، ومجاهدة النفس ومخالفتها، والإخلاص لله قالت:" أخبرني عن فرض الفرض، وعن فرض في ابتداء كل فرض، وعن فرض يحتاج إليه كل فرض، وعن فرض يستغرق كل فرض، وعن سنّة داخلة في الفرض، وعن سنّــة يتمّ بها الفرض". فسكت ولم يجب بشيء. فأمرها أمير المؤمنين بأن تفسرها وأمره بـــأن ينزع ثيابه ويعطيها إياهـــا.
فعند ذلك قالت:" يا فقيه أمّا فرض الفرض فمعرفة الله تعالى، وأمّا الفرض في ابتداء كـل فرض فهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله، وأمّا الفرض الذي يحتاج إليــه كل فرض فهو الوضوء، وأمّا الفرض المستغرق كل فرض فهو الغسل، وأمّا السّنة الداخلة في الفرض فهو تخليل الأصابع وتخليل اللّحية الكثيفة، وأمّا السّنة التي يتمّ بها الفرض فهو الاختتان".
فعند ذلك تبيّن عجز الفقيه وقام على قدميه وقال:" أشهد الله يا أمير المؤمنين أن هذه الجارية أعلم مني بالفقه وغيـــــره.
أمّا حكايتها مع المقرئ فإنها التفتت إلى من بقي حولها من العلماء الحاضرين و قالــت
" أيكم الأستاذ المقرئ العالم بالقراآت السّبع و النحو و اللغة"؟ فقام إليها المقرئ وجلــس
بين يديها و قال لها" هل قرأت كتاب الله تعالى و أحكمت معرفة آياته وناسخه و منسوخه
ومحكمه ومتشابه و مكية و مدنية وفهمت تفسيره وعرّفته على الروايات و الأصول فــي
القراآت"؟ قالت "نعم" قال " اخبريني عن عدد سور القرآن وكم فيه من عشر و كم فيه من آية و كم فيه من حرف و كم فيه من سجدة و كم فيه من نبي مذكور و كم فيه من سـورة مدنية وكم فيه من سورة مكية و كم فيه من طير"؟. قالت " ياسيدي أما سور القرآن فمائة وأربع عشر سورة، المكي منها سبعون سورة ، و المدني أربع و أربعون سورة. وأما أعشاره فستمائة عشر وأحد و عشرون عشرا. وأما الآيات فستة آلاف و مائتان و ســـت وثلاثون آية. وأما كلماته فتسعة و سبعون ألف كلمة و أربعمائة و تسع و ثلاثون كلمة. وأمّا حروفه فثلاثمائة ألف و ثلاثة و عشرون ألفا و ستمائة و سبعون حرفا و للقارئ بكل حرف عشر حسنات. و أما السجدات فأربع عشر سجدة" ثم قالت" و أما الأنبياء الذين ذكـرت أسمائهم في القرآن فخمسة و عشرون نبيا و هم" آدم و نوح و إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و اليشع و يونس و لوط و صالح و هود و شعيب و داود و سليمان و ذو الكفل و إدريس و الياس و يحي و زكريا و أيوب و موسى و هارون و عيسى و محمــد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين.و أما الطير فهن تسع" قال" ما اسمهن" قالت:" البعوض و النحل و الذباب و النمل و الهدهد و الغراب و الجراد و الأبابيل و طير عيســى عليه السلام و هوالخفاش" قال " أحسنت" ، فاخبريني أي سورة في القرآن أفضل" ؟ قالت " سورة البقرة" قال" فأي آية أعظم قالت"آية الكرسي و هي خمسون كلمة مع كل كلمـة خمسون بركـة" ثم أنه قال" أي آية فيها تسع آيات"؟ قالت"" قوله تعالى" إن في خلــق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفـع الناس إلى آخر الآية" قال" أحسنت"، فاخبريني أي آية أعدل"؟ قالت" قوله تعالى" إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي". قـال" فأي آية أطمع" قالت" قوله تعالى" أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنات النعيم" قـال" فأي آية أرجى"؟ قالت" قوله تعالى" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم" قال" أحسنت" فلما سمـع كلامها وتعجب من لفظها و فصاحتها وعلمها و فضلها قال لها يا جارية ما تقولين فـي قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من آيات القرآن"؟ قالت" نعم ، آية مـن القرآن في النمل و آية بين كل سورتين و الاختلاف في ذلك بين العلماء كثير " قـال" أحسنت ثم أن العالم قال لها يا جارية" فأخبريني لم لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم فـي أول سورة براءة"؟ قالت" لما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي(صلعم) و بين المشركين وجه لهم النبي(صلعم) علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في يوم موسم بسورة براءة، فقرأها عليهم و لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم" قال" فأخبريني عن فضــل بسم الله الرحمن الرحيم و بركتها" قالت" روي عن النبي (صلعم) انه قال" ما قرأت بسم الله الرحمن الرحيم على شيء إلا كان فيه البركة، و عنه(صلعم) حلف ربّ العزة بعزتــه لا تسمى باسم الله الرحمن الرحيم على مريض إلا عوفي من مرضه. و قيل لما خلق الله العرش اضطرب اضطرابا عظيما فكتب عليه بسم الله الرحمن الرحيم فسكن اضطرابــــه فلما سمع المقرئ كلامها أطرق و قال في نفسه إن هذا لعجب عجيب لابد من أن أتحيل عليها لعلي أغلبها ثم قال لها" يا جارية هل انزل الله القرآن جملة واحدة أو انزله متفرقا"؟ قالت"نزل به جبريل الأمين عليه السلام من عند رب العالمين على نبيه محمد سيـد المرسلين، بالأمر و النهي و الوعد و الوعيد و الأخبار و الأمثال في عشرون سنـة آيات متفرقات على حسب الوقائع" قال" أحسنت، فأخبريني عن أول سورة نزلت علـــى الرسول(صلعم)" قالت" في قول ابن عباس سورة العلق" و في قول جابر بن عبد الله سورة المدثر، ثم أنزلت السور و الآيات بعد ذلك" قال" فأخبريني عن آخر آية نزلت" قالت" آخر آية نزلت عليه آية الرّبا، و قيل" إذا جاء نصر الله و الفتح" فقال لها أحسنت" فأخبرينــي عن عدّة الصحابة الذين جمعوا القرآن على عهد الرسول(صلعم) " قالت" هم أربعـــة، أبي بن كعب، و زيد بن ثابت، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، و عثمان بن عفـــــان رضوان الله عنهم أجمعين" قال" أحسنت، فأخبريني عن القراء الذين تؤخذ عنهم القــراءة " قالت " هم أربعة"، عبد الله بن مسعود، و أبي بن كعب، و معاذ بن جبل، و سالم بـــن عبد الله" فلما رآها المقرئ تمر في كلامها مرّ السحاب و لم تتوقف في الجواب قام قائمــا على قدميــه و قال"اشهد الله يا أمير المؤمنين أن هذه الجارية أعلم مني بالقراآت وغيرها"
فعند ذلك قالت الجارية" أنا أسألك مسألة واحدة فان أتيت بجوابها فذاك و إلا نزعت ثيابك " قال أمير المؤمنين "سليه" فقالت" ما تقول في آية فيها ثلاثة و عشرون كافا، وآية فيهــا ستة عشر ميما، و آية فيها مائة و أربعون عينا، و حزب ليس فيه الجلالة"؟ فعجز المقرئ عن الجواب. فقالت"انزع ثيابك" فنزع ثيابه ثم قالت" يا أمير المؤمنين إن الآية التي فيهــا ستة عشر ميما هي آية في سورة هود و هي قوله تعالى"قيل يا نوح أهبط بسلام منـا و بركات عليك الآية. و أن الآية التي فيها مائة و أربعون عينا في سورة الأعراف وهـي قوله تعالى" و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا، لكل رجل عينان. وأن الآية التي فيها ثلاثة وعشرين كافا فهي آية الدّين في سورة البقرة. وأن الحــزب الذي ليس فيه جلالة هو سورة اقتربت الساعة و انشق القمر و الرحمن و الواقعـة" فعنـد ذلك نزع المقرئ ثيابه التي عليه و انصرف خجـــلا.
ثم قال أمير المؤمنين " أين الفيلسوف"؟ فنهض إليها رجل و تقدم و قال" أخبريني عــن خمسة أكلوا و شربوا و ما خرجوا من ظهر و لا بطن" قالت"هم آدم و شمعون و ناقـــة صالح و كبش إسماعيل و الطير الذي رآه أبو بكر في الغار". قال" فاخبريني عن خمـــس في الجنة لا من الإنس و لا من الجن و لا من الملائكة"؟ قالت"ذئب يعقوب و كلــــب أصحاب الكهف و حمار العزيز و ناقة صالح و دلدل النبي(صلعم) قال" فأخبريني عـــن رجل صلّى صلاة لا في الأرض و لا في السماء"؟ قالت" هو سليمان حين صلّ علـــى بساطه و هو على الريح" قال" فأخبريني عن قبر مشى بصاحبه"؟ قالت" هو حوت يونس بن متى حين ابتلعه" قال " فأخبريني عن شيء يتنفس بلا روح"؟ قالت" قوله تعالــى و الصّبح إذا تنفس" فتجرد الفيلسوف من ثيابه و خرج هاربا.
فتقدم إليها الطبيب الماهر و قال:" فرغنا من علم الأديان فتيقضي لعلم الأبدان و اخبريني عن الإنسان و كيف خلقته، و كم في جسده من عرق، و كم من فقارة، و أين أول العروق، و لمَ سمّي آدم آدم "؟ قالت:" سمّي آدم لأدمته أي سمـرة لونه و قيل أنه خلق من أديم الأرض أي ظاهر وجهها صدره من تربة الكعبة و رأسه من تربة المشرق و رجلاه من تربة المغرب و خلق له سبعة أبواب فـي رأسه و هي: العينان و الأذنان و المنخران و الفم. فجعل العينين حاسة النظـر، والأذنين حاسة السمع، و الفم حاسة الذوق، و جعل اللسان ينطق بما في ضميـر الإنسان. و خلق آدم مركبا من أربع عناصر و هي: الماء و التراب و النــار و الهواء فكانت الصفراء طبع النار و هي حارة يابسة، و السوداء طبع التراب وهو بارد يابس، و البلغم طبع الماء و هو بارد رطب، والدّم طبع الهواء و هو حار رطب. و خلق في الإنسان ثلاثمائة و ستين عرقا، و مائتين وأربعين عظمـا، وثلاثة أرواح حيواني و نفساني و طبيعي. و جعل لكل منها حكما و خلق الله لـه قلبا و طحالا و رئة و ستة أمعاء و كبدا و كليتين و أليتين و مخا و عظما و جلــدا وخمس حواس سامعة و باصرة و شامّة و ذائقة و لامسة. و جعل القلب في الجانب الأيسر من الصدر، و جعل المعدة أمام القلب، و جعل الرئة مروحة للقلب وجعل الكبد في الجانب الأيمن محاذية للقلب، و خلق ما دون ذلك من الحجـاب والأمعاء وركب ترائب الصدر و شبكها بالأضــــــلاع".
عند ذلك قام الطبيب و قال" يا أمير المؤمنين أشهد الله عليّ أن هذه الجارية أعلــــم مني في الطب.
وأمّا حكايتها مع النظّام فان الجارية التفتت إلى العلماء الحاضرين و قالت" أيكم المتكلم في كل فن و علم"؟ فقام إليها النظّام و قال لها " أخبريني عن خمسة أشياء خلقها الله تعالــى قبل خلق الخلق"؟ قالت له" هي الماء و التراب و النور و الظلمة و الثمار قال" أخبرينــي عن شيء خلقه الله بيد القدرة. قالت" العرش و شجرة طوبى و آدم و جنة عدن فهــؤلاء خلقهم الله بيد قدرته، و سائر المخلوقات قال لهم كونوا فكانوا" قال " فأخبريني عن أنثــى من ذكر و ذكر من أنثى " قالت " حواء من آدم و عيسى من مريم" قال" أخبريني كـم كلمة كلم الله موسى " قالت " روي عن الرسول (صلعم) أنه قال"كلم الله موسى ألــف وخمس عشرة كلمة" قال أخبريني عن أربعة عشر كلّموا ربّ العالميــن". قالت" السماوات و الأرضون السبع لمّا قالتا أتينا طائعين". قال" فأخبريني عن آدم و أول خلقته"؟ قالــت:" خلق الله آدم من طين والطين من زبد والزبد من بحر والبحر من ظلمة والظلمـة من نور و النور من حوت و الحوت من صخـرة و الصخرة من ياقوتة والياقوتة من ماء و الماء من القدرة لقوله تعالى" إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكـــون" . قال:" فاخبريني عن مسائل كثيرة". قالت:" و ما هي"؟. قال:" ما أحلى من العسل، و ما أحدّ من السيف، و ما أسرع من السّـم، و ما سرور ثلاثة أيام، و ما أطيــب يوم، و ما فرحة جمعة ، وما الحق الذي لا ينكره صاحب الباطل، و ما سجن القبر، و ما فرحة القلب، و ما كيد النـــفس، و ما موت الحيــاة و ما الدّاء الذي لا يــداوى، و ما العار الذي لا ينجلي، و ما الدابة التي لا تأوي إلى العمران و تسكن الخــراب و تبغض بني آدم وخلق فيها من خلق سبعة جبابرة؟". قالت له:" اسمع جواب ما قلت ثم انزع ثيابك حتى أفسّر لك ذلك" قال لها أميـــر المؤمنين:" فسّري و هو ينزع ثيابه". قالت:" أمّا ما هو أحلى من العسل فهو حب الأولاد البارّين بوالديهم، و أمّا ما هو أحدّ من السيف فهو اللسان، و أمّا ما هــو أسرع من السمّ فهو عين المعيان، و أمّا سرور ثلاثة أيام فهو نورة النساء، و أمّــا ما هو أطيب فهو يوم الربح في التجارة، و أمّا فرحة جمعة فهو العروس، و أمّـا الحق الذي لا ينكره صاحب الباطل فهو الموت، و أمّا سجن القبر فهو ولد السّـــوء ، و أمّا فرحة القلب فهي المرأة المطيعة لزوجها، و أمّا كيــد النفس فهو العبد العاصي ، و أمّا موت الحياة فهو الفقر، و أمّا الدّاء الذي لا يداوى فهو سوء الخلق، و أمّــا، العار الذي لا ينجلي فهو بنت السّوء، و أمّا الدابة التي تأوي إلى العمــران و تسكن الخـراب و تبغض بني آدم و خلق فيها خلق من سبعة جبابرة فإنــها الجرادة رأسها كرأس فرس و عنقها كعنق الثور و جناحها جناح نسر و صدرهــا صدر الجمل و ذنبها ذنب حيّة و بطنها بطن عقـرب و قرنها قرن غـــــزال".
فلمّا نظـر إلى حذقها و علمها و حسن كلامها و فهمها ابتغى له حيلة يخجلها بها بين يدي أمير المؤمنين. فقال لها " يا جارية هل ينزل في هذا الشهر مطر"؟ فأطرقت ساعة ثم تفكرت طويلا حتى ظن أمير المؤمنين أنها عجزت عن جوابه. فقال لها " لمَ لمْ تتكلمي"؟ فقالت " لا أتكلم إلا أن أذن لي في الكلام أمير المؤمنين". فقال لها أمير المؤمنيـن " و كيف ذلك "؟ قالت" أريد أن تعطيني سيفا أضرب به عنقه لأنه زنديق" فضحك أمير المؤمنين و ضحك من حوله. ثم قالت" خمسة يعلمها إلا الله تعالى و قرأت" إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" فقال لها أحسنت، و إني والله ما وددت إلا اختبــــــارك.
ثمّ أنّ أمير المؤمنين دعا بأرباب آلات الطرب فحضروا. فقال لها أميرالمؤمنين " هل تعرفين شيئا من آلات الطرب"؟ قالت:" نعم". فأمر بإحضار عـود محكوك مدعوك مجرود، صاحبه بالهجران مكدود، فجيء بعود في كيس من الأطلس الأحمر، له شرّابة من الحرير المزعفر، فحلّت الكيس وأخرجت العود ووضعتــه في حجرها ، وانحنت انحناء والدة ترضع ولدها وضربت عليه اثني عشر نغمـــا حتى ماج المجلس من الطّرب .
فطرب أمير المؤمنين وقال:" بارك الله فيك ورحم من علّمك. فقامت وقبّلـت الأرض بين يديه، ثمّ أن أمير المؤمنين أمر بإحضار المال ووضع لمولاهـا مائة ألف دينار، وقال لها:" يا تودّد تمنّي عليّ". قالت:" تمنيت عليك أن تردني إلى سيّدي الذي باعني". فقال لها" نعم" فردّها إليه و أعطاها خمسة آلاف دينار.

زائر

» كتاب الف ليلة وليلة
» تحميل كتاب أطباق النخبة مجاناً ( كتاب طبخ) 2009 - 2010
» مناظرة بيني وبين نفسي
» أفكار سهلة جداً للصدقة الجارية
» السيئات الجارية ... احذروها قبل فوات الأوان