العشرة الأواخر والدعاء
عندما تنزل الحاجة بالعبد فإنه ينزلها بأهلها الذين يقضونها ، وحاجات العباد لا تنتهي .
يسألون قضاءها المخلوقين ؛ فيجابون تارة ويردون أخرى .
وقد يعجز من أنزلت به الحاجة عن قضائها . لكن العباد يغفلون
عن سؤال من يقضي الحاجات كلها؛ بل لا تقضى حاجة دونه ، ولا يعجزه شيء ،
غني عن العالمين وهم مفتقرون إليه . إليه ترفع الشكوى ،
وهو منتهى كل نجوى ، خزائنه ملأى ، لا تغيضها نفقه ،
يقول لعباده { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
كل الخزائن عنده ، والملك بيده { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
[ الملك] {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }[ الحجر ] ،
يخاطب عباده في حديث قدسي فيقول : (( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته
ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أًدخل البحر ))
[ رواه مسلم 2577] ويقول سبحانه
: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }[ فاطر] .
لا ينقص خزائنه من كثرة العطايا ، ولا ينفد ما عنده ، وهو يعطي العطاء الجزيل
{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96]
قال النبي عليه الصلاة والسلام (( يدُ الله ملأى لا تغيضها نفقه سحاءُ الليل والنهار
، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض ؟
فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء
وبيده الميزان يخفض ويرفع )) [ رواه البخاري 684 ومسلم 993]
.
هذا غنى الله ، وهذا عطاؤه ، وهذه خزائنه ، يعطي العطاء الكثير ،
ويجود في هذا الشهر العظيم ؛ لكن أين السائلون ؟ وأين من يحولون
حاجاتهم من المخلوقين إلى الخالق ؟ أين من طرقوا الأبواب
فأوصدت دونهم ؟ وأين من سألوا المخلوقين فرُدوا ؟ أين هم ؟
دونكم أبواب الخالق مفتوحةً ! يحب السائلين فلماذا لا تسألون ؟ .
فضل الدعاء
إن الدعاء من أجلِّ العبادات ؛ بل هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛
ذلك لأن فيه من ذلِّ السؤال ،
وذلِّ الحاجة والافتقار لله تعالى والتضرع له ،
والانكسار بين يديه ، ما يظهر حقيقة العبودية لله تعالى ؛
ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام
(( ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ))
[ رواه الترمذي وحسنه 3370 وابن ماجه 3829] .
وإذا دعا العبد ربه فربه أقربُ إليه من نفسه
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186] ،
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
(( في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين
أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل
وعند كل فطر كما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد ))
[رواه ابن ماجه 1753 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/ 328 ]
دعوةٌ عند الفطر ما ترد ، ودعاء في ثلث الآخر مستجاب ،
وليلةٌ خير من ألف شهر ، فالدعاء فيها خير من الدعاء في ألف شهر .
ما أعظمه من فضل ! وأجزله من عطاء في ليالٍ معدودات . فمن يملك نفسه وشهوته ،
ويستزيد من الخيرات ، وينافس في الطاعات ، ويكثرُ التضرع والدعاء .
ليالي الدعاء
نحن نعيش أفضل الليالي ، ليالٍ تعظُم فيها الهبات ،
وتنزل الرحمات ، وتقال العثرات ، وترفع الدرجات .
فهل يعقل أن تقضى تلك الليالي في مجالس الجهل والزور ،
وربُ العالمين ينزل فيها ليقضي الحوائج .
يطلع على المصلين في محاريبهم ، قانتين خاشعين ،
مستغفرين سائلين داعين مخلصين، يُلحون في المسألة ، ويرددون دعاءهم
: ربنا ربنا . لانت قلوبهم من سماع القرآن ،
واشرأبت نفوسهم إلى لقاء الملك العلام ،
واغرورقت عيونهم من خشية الرحمن . فهل هؤلاء أقرب إلى رحمة الله
وأجدر بعطاياه أم قوم قضوا ليلهم فيما حرم الله ،
وغفلوا عن دعائه وسؤاله؟ كم يخسرون زمن الأرباح ؟
وساء ما عملوا ؟ ما أضعف هممهم ،
وما أحط نفوسهم ، لا يستطيعون الصبر ليالي معدودات !!
من يستثمر زمن الربح ؟!
هذا زمن الربح ، وفي تلك الليالي تقضى الحوائج ؛ فعلق
– أخي المسلم –
حوائجك بالله العظيم
، فالدعاء من أجل العبادات وأشرفها ،
والله لا يخيب من دعاه قال سبحانه :
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60] وقال تعالى :
{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55}
وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[ الأعراف :56] .
العلاقة بين الصيام والدعاء
آيات الصيام جاء عقبها ذكرُ الدعاء
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186]
قال بعض المفسرين : (( وفي هذه الآية إيماءٌ إلى أن الصائم مرجو الإجابة ،
وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته ، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان ))
[ التحرير والتنوير 2/179] والله تعالى يغضب إذا لم يسأل قال النبي عليه الصلاة والسلام
(( من لم يسأل الله يغضب عليه )) [ رواه أحمد 2/442 والترمذي 3373 ] .
الله تعالى أغنى وأكرم
مهما سأل العبد فالله يعطيه أكثر ،
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها
إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث :
إما أن تعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ،
وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها .
قالوا : إذاً نكثر ، قال : الله أكثر )) [ رواه أحمد 3/18].
والدعاء يرد القضاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام
(( لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ))
[ رواه الترمذي وحسنه 2139 والحاكم وصححه 1/493]
. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام :
(( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء ))
[ رواه أحمد 5/234 والحاكم 1/493] ف
الله تعالى أكثر إجابة ، وأكثر عطاءً .
الذل لله تعالى حال الدعاء
إن الدعاء فيه ذلٌ وخضوع لله تعالى وانكسار وانطراح بين يديه ،
قال ابن رجب رحمه الله تعالى : وقد كان بعض الخائفين
يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه ويمد يديه كحال السائل ،
وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار ،
ومن افتقار القلب في الدعاء ، وانكساره لله عز وجل ،
واستشعاره شدة الفاقةِ ، والحاجة لديه .
وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابة الدعاء ، قال الأوزاعي : كان يقال :
أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه ))
[ الخشوع في الصلاة ص72] .
أيها الداعي : أحسن الظن بالله تعالى
والله تعالى يعطي عبده على قدر ظنه به ؛ فإن ظن أن ربه غني كريم جواد ،
وأيقن بأنه تعالى لا يخيب من دعاه ورجاه ،
مع التزامه بآداب الدعاء أعطاء الله تعالى كل ما سأل وزيادة ،
ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي :
(( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني ))
[ رواه البخاري 7505 ومسلم 2675] .
أيها الداعي : لا تعجل
إن من الخطأ أن يترك المرء الدعاء ؛ لأنه يرى أنه لم يستجب له ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: (( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول :
قد دعوت فلم يستجب لي )) [ رواه البخاري 6340 ومسلم 2735] .
قال مُورِّقٌ العجلي : (( ما امتلأت غضباً قط ، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة
فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء )) [ نزهة الفضلاء ص 398] .
وكان السلف يحبون الإطالة في الدعاء قال مالك : (( ربما انصرف عامر بن عبد الله بن
الزبير من العتمة فيعرض له الدعاء فلا يزال يدعو إلى الفجر ))
[ نزهة الفضلاء 484] . ودخل موسى بن جعفر
بن محمد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد
سجدة في أول الليل فسمع وهو يقول في سجوده :
(( عظمُ الذنبُ عندي فليحسن العفو عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة ، فما زال يرددها حتى أصبح ))
[ نزهة الفضلاء 538] .