"البعبع" ذو السبعة أرواح

"البعبع" ذو السبعة أرواح

وتعود الذكرى والألم أكثر من ألم: ألم الذكرى.. ألم الوزر.. ألم التمزق.. ألم الحلم المغتال في المهد.. ألم المجهول من الماضي والحاضر والمستقبل.. وأشده ألم الانتظار.. انتظار اقلاع لن يحدث أبدا في ظل هذه الأحوال.. وعلى يد مثل هذه الرجالات التي تحمل تلك الذهنيات والقناعات والسلوكات.. والمخططات والعمليات...
تعود الذكرى بعد عشرين سنة من الألم والأنين والحنين.. وربما الحلم.. أو الأمل من حين لآخر.. دون أن يحدث شيء...
عشرون سنة عجافا من الضياع والفوضى والرداءة والفساد.. عشرون سنة من الظلم والغصب والسلب والنهب والشرعية المزيفة.. عشرون سنة من الفقر والجهل والمرض والموت البطيء.. عشرون سنة من الغدر والنفاق والتزوير والعبث.. عشرون سنة من الاستماع الى سمفونياتهم الكريهة المملة وثوابتهم البالية الحجرية المضللة.. ووعودهم الكاذبة المستحيلة.. عشرون سنة من انتظار "غودو" الذي لن يعود أبدا.. وأشدها عشرون سنة عجافا من الإحساس بالذنب دون ذنب..
وأنت يا صديقي.. هل تسمعني؟ هل أنت معي؟ هل تصغي إلي وأنا أجتر تلك الآلام والهواجس والآمال؟ أم أنك منشغل بالتساؤل: أية ذكرى؟ هل هو نسيان منك أم ضجر أم يأس؟
ربما يحق لك أن تضجر بل وحتى أن تيأس.. لكن أن تنسى فلا.. فإن فعلت فما أغبنك.. وما أسرع أن تنسى...
لا أفهم كيف تنسى كل ذلك بهذه السهولة وربما عانيت أكثر مما عانيت أنا؟ لا.. لا.. مستحيل أن تنسى.. حتى ولو كنت من الآخرين.. من أهل الضفة الأخرى.. أهل "البعبع" الجديد.. فلا أحد ينسى يوم ميلاده أو يوم هلاكه.. يوم سعده أو يوم حزنه...
لا تدع الزمام يفلت من يدك من جديد.. فتفكر في البعبع الجديد وتتساءل : من هو؟ أو من المقصود؟
آه يا صديقي.. يبدو أنك تغيرت كثيرا.. ولم تعد الرجل الذي عرفناه.. الأحداث لم تدع فيك شيئا إلا جعلته كالرميم...
صحيح أننا لم نعرف إلا بعبعا واحدا فيما مضى.. رغم أن الحقيقة كان هناك أكثر من واحد.. أو بالأحرى بعبع واحد يجدد نفسه في كل عهد.. وفي كل مرة نراه بشكل مختلف.. في حين هو هو في الباطن لم يتغير.. لكن الذي حدث قبل عشرين سنة لم يكن في الحسبان.. هل تذكر؟
هل تذكر البعبع الرهيب الذي أرعبونا به وخدرونا قبل عشرين سنة؟ هم خلقوه.. وجوفوه.. ونفخوا فيه من أرواحهم النتنة الكريهة.. وملأوه بما هب ودب من الغازات السامة.. حتى صار "بالونا" عملاقا ضخما.. ثم أطلقوه في الهواء ليرهبونا به ويبهرونا بآياته من السماء.. لكن....
تعرف ما الذي حصل فيما بعد.. لا أريد أن أن أعيده.. لكن الأمور لم تبدأ في التجلي إلا من قريب...
كان هناك فأر صغير خبيث تعلق بالبالون بإيعاز من بعض أهله و على غفلة من بعضهم الآخر.. هو الفأر نفسه الذي تعلق ببالون ما قبل الحرب.. ألم أقل لك؟ لقد عرفنا أكثر من بعبع طيلة السنوات العجاف من عمرنا... لكن هذا الفأر يبقى أعجوبة الزمن بالمقلوب.. فأر يهوى بل يحترف بل يعشق تعليق الأجراس....
هذه المرة كعادته وككل مرة يتدخل لينقذ ما يمكن انقاذه، كان يحمل دبوسه التاريخي العجيب المشهور.. هي عصاه السحرية.. نقر بها البالون فانفجر ككمأة نووية.. وتساقطت علينا أشلاؤه كالقنابل العنقودية والفسفورية وما شابه.. فأهلكت الحرث والنسل...
هنا كذلك أشعر بك تذهب بعيدا.. لقد صرت يا صديقي كثير الشرود.. تتساءل : ما الذي حدث للفأر؟.. أنت طيب جدا.. أقسم أنك طيب فوق اللازم.. دع عنك قليلا يا رجل.. ولا تحمل هم الدنيا بأسرها على رأسك.. فأنت لا تستحق كل هذا الشقاء والتعب والوهن.. إلا أن تكون أنت الفأر أو أحد مريديه...
على كل حال لا تعتقد أن الفأر مات.. فهو ذو سبعة أرواح ونصف.. مات النصف وبقيت السبعة.. عليك بالحوقلة والبسملة والتعوذ والتكبير والتهليل ما شاء الله لتشفي غليلك.. فالفأر أصبح هو البعبع الآن.. لقد جدد نفسه.. لقد عاد الى سابق عهده.. طبعا ليس كما ولدته أمه.. فقط اصبح عصريا قليلا.. أقصد في بعض الأمور.. في النهب والتسلق والمظهرة.. والمتاجرة بحقوق الناس وأحلامهم ومبادئهم وضمائرهم ومصائرهم وأحوالهم.. انظر اليه جيدا.. لاتشرد من فضلك.. هاهو يمر وهو يصرخ : دعه يمر.. دعه يمر.. ارفع رأسك وافتخر.. وها هو يوزع التحيات والبسمات على عاشقيه وهو يقبع على رؤوسنا ويجثم على صدورنا ويكتم أنفاسنا ويحصي علينا حركاتنا وسكناتنا.. يدفعنا دفعا الى البحر لنحرثه.. يدفعنا دفعا الى الصحراء لنجوبها سباحة.. يدفعنا دفعا الى الغابات والشوارع والحيطان لنقيسها شبرا شبرا.. يدفعنا دفعا الى الجنون لئلا يصغي لأناتنا أحد.. يدفعنا دفعا الى الضلال لئلا يدخل جهنم وحده.. يدفعنا دفعا الى التهلكة انتحارا ونحن نضحك ونلعب ونغني ونرقص ونهتف : وان، تو، اثري.. حبيبتي هي Paris...
تعود الذكرى.. والآلام لا تحصى.. والآمال منطفئة.. والهامات في الحضيض.. والضمائر في سبات.. والكل مأخوذ بعزة الشهوات.. والكل يجري في كل الاتجاهات بهدف او دون هدف.. ولا شيء في الأفق غير الانتظار.. انتظار "غودو" الذي لن يعود أبدا...
"هتلر" قال لهم : سنلتقي بعد عشرين سنة.. والتقى بهم بعد عشرين سنة ولفنهم درسا لم ولن ينسوه.. أما هؤلاء فقد امتلأت ألبابهم ميوعة..وأفواههم جعجعة.. وجعبهم بعبعة.. وملك البعبع كيانهم وأسر قلوبهم وعقولهم وضمائرهم.. فلم يقولوا ولم يفكروا حتى أن يقولوا ناهيك أن يفعلوا.. ذلك لأن البالون يبقى بالونا.. لا ينفع معه إلآ اللعب به ليس ركلا ولطما ولكما فحسب بل نفخا وتفجيرا كذلك...