مدننا وقرانا حفظت مطارح للعين بعد أن ترتاح فيها وتهنأ
قناطر ومندلون وواجهات مفتوحة للشمس وسطوح من ياقوت
قصور وحارات وبيوت تناغـمت مع الطبيعة
وحملت أسرار التاريخ ونبض الذاكرة
في مدننا وبلداتنا وقرانا, ثمة بعد مطارح, للعين أن ترتاح فيها, وللنفس أن تفرح. فثمة أماكن حافظت على بهاء عماراتها القديمة وحفظت من خلالها معالم تراث يستحق أن نحميه ونحافظ عليه. تلك العمارات المبنية بالحجر الصخري المقصوب, المكللة بقرميد أو المكتئبة على قناطر, والمستوية بإنسجام في محيطها. أبنية تحترم الطبيعة من حولها, فالبيت جزء من الطبيعة يتآلف مع جمالها وعناصرها. وخلافاً لما نبنيه اليوم من عمارات شاهقة نافرة, كانت أبنيتنا متواضعة تلبي ببساطة متطلبات العيش في أيام أجدادنا وأهلنا. وهي حتى وان طمحت الى الرفاه والتطلب, ظلت على احترامها للطبيعة وعلى انسجامها مع المشهد العام.
بيروت, صيدا, جونية, عمشيت, دير القمر, المختارة, صاليما, دوما, وسواها الكثير من المدن والبلدات, تضم كنوزاً تراثية. وفي هذه الصفحات محاولة للإضاءة علىها وعلى المشاريع التي تنفذ بهدف حمايتها لتظل واحة جمال وسحر.
فن العمارة التراثية في لبنان ومميزاته
الحديث عن فن العمارة التراثية في لبنان يشهد على تنوّع نماذج العمارة التقليدية بين القرن الرابع عشر والقرن العشرين. وفهم هذا الإرث والإلمام بقيمته يفترضان النفاذ من الشكل الخارجي الى إدراك التناغم المتبادل بين الطبيعة والعمارة من جهة, والعلاقات الإجتماعية من جهة أخرى. فالتراث هو جزء لا يتجزأ من الكيان الإجتماعي.
يقول المهندس فضل الله داغر في مقدمة كتاب “الإنسان, الأرض والحجر فن العمارة التراثية في لبنان”: ما زلنا نجد اليوم مجموعات قروية ومدينية تراثية محافظة على تماسكها. وهذا التراث, النابض بالحياة, والحامل في ثناياه ذاكرة شعب وأرض, هو الذي يهمنا.
ويضيف: تعكس العمارة التقليدية في لبنان نمطين من العيش: الأول مديني, منفتح على التأثيرات الثقافية, الشرقية منها أو الغربية, وعمارته هي من نتاج البنّائين المتخصصين الذين كانوا يعملون لحساب البورجوازية التجارية والصناعية.
والآخر قروي, محلي, ينعكس فيه أثر تقنية الموروث المعماري البسيط, أبنيته عملية, وهي من نتاج القرويين الذين يعيشون على إيقاع الأيام والفصول.
وهـــــــذان النمطان من العيش غالباً ما يجتمعان في مظهرهــمــــا المعماري, من خلال تقنية في البناء تقوم على إعتماد الحجر المقصوب؛ كما يجتمعان أيضاً في تشابه العناصر الهندسية وطريقة إستعمال بعض الفضاءات: الحوش, الرواق أو الإيوان؛ ويلتقيان أخيراً في الطراز المعماري المعروف بـ”البيت ذو البهو المركزي” والذي يعود الى القرن التاسع عشر, وهو طراز مديني بامتياز إنتشر في القرى.
اليوم الوطني للتراث
منذ خمسة أعوام تطلق “المؤسسة الوطنية للتراث” اليوم الوطني للتراث في السادس عشر من أيار في كل عام, بالتعاون مع وزارات الثقافة والسياحة والتربية والنقل والبلديات والمديرية العامة للآثار وجمعية “أبساد”.
في هذا اليوم, تُفتح أبواب كل المواقع الأثرية والتراثية والمتاحف الوطنية في مختلف المدن اللبنانية مجاناً, “بهدف مشاركة الجيل الجديد في عملية المحافظة على التراث”.
وقد نظّمت “جمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والأبنية القديمة في لبنان” (أبساد) هذه السنة, سلسلة زيارات الى مواقع تراثية وأبنية قديمة ما زالت محافظة على تراثها المعماري. والجولة في هذه المواقع تشكل رحلة في معالم تراثنا العريق.
بيروت
نبدأ من بيروت وتحديداً من شارع سرسق برفقة السيدة ريتا نجار من جمعية “أبساد”. يضم هذا الشارع مجموعة أبنية عريقة بطرازها وبتاريخها:
منزل مقبل الذي شيّد عام 1830, فيلا ليندا سرسق, متحف سرسق, فيلا الليدي إيفون سرسق كوكرين التي بنيت عام 1850, منزل د. فغالي الذي بناه عام 1880 يوسف سرسق وشهد زيارة كبار الشخصيات العربية والأجنبية, ومن موجوداته ثريا من “الكريستال” اهداها قيصر روسيا الى يوسف سرسق.
وننتقل الى شارع الجميزة التاريخي الذي كان قديماً معبراً رومانياً يصل بيروت بكسروان, ومؤخراً اكتشفت فيه آثار فينيقية لأول مرة في التاريخ الحديث.
شيّدت الجميزة الحديثة بدءاً من العام 1850 وامتداداً حتى العام 1915. وهي شهدت منذ القِدم نهضة تجارية واقتصادية فاشتهرت أيام الرومان كسوق لتبادل السلع, وأيام العثمانيين بصناعة الزجاج والحرير, وفي آخر عهد العثمانيين دخلت إليها صناعة العرق والزيت والصابون.
من معالم الجميزة درج مار نقولا الذي عرف أخيراً بدرج الفن. قديماً كان هذا الدرج معبراً ترابياً غضّاً بالأشجار وملاذاً للملاحقين من العثمانيين. وفي أواخر عهد العثمانيين رصف بالحجارة وأقيم على جانبيه سور وأصبح “قادومية” تصل حي السراسقة الأرستقراطي بـ”حي البيارة” و”حي الرميل” الشعبيين. وفي زمن الإنتداب استمر الدرج ملاذاً للملاحقين من قوى الإنتداب, وقامت السلطات الفرنسية بتحسينه مستخدمة الحجر البحري على شكل رسوم لحيوانات ورموز بحرية متنوعة.
ومثلما كان حي السراسقة سكناً للولاة العثمانيين ومن بينهم جمال باشا, فقد سكن شارع الجميزة الحكّام الفرنسيون وأبرزهم الجنرال غورو الذي أصبح هذا الشارع يُعرف باسمه.
في الستينات أصبح الدرج على ما هو عليه اليوم, 202 درجة تفصل بينها 23 وصلة, أما طوله فيبلغ نحو 150 متراً.
خلال الأحداث لحقت بالدرج والمباني المحيطة به أضرار كثيرة. عام 1999 أعادت “جمعية إنماء الجميزة” ترميمه مع المباني المحيط به, وذلك بمساعدة أشخاص ومؤسسات.
اليوم تطمح الجمعية الى تحويل درج مار نقولا الى نسخة مطوّرة عن درج “مون مارتر” الباريسي وتسعى بالتعاون مع مقاطعة سانت إتيان الفرنسية, الى جعله معرضاً دائماً للفنون وملتقىً ثقافياً وفكرياً.
الى شارع سرسق ومنطقة الجميزة, تضم بيروت مئات الأبنية التراثية التي ينبغي الحفاظ عليها وحمايتها. وحسب المهندس عبد الحليم جبر فإن أبساد أوصت بحماية 520 بناء موزعاً على قطاعات أربعة في محيط وسط بيروت, وهي:
- عين المريسة ميناء الحصن القنطاري سبيرز الظريف.
- زقاق البلاط الباشورة البسطا التحتا.
- الأشرفية اليسوعية عبد الوهاب الإنكليزي فرن الحايك مار نقولا (جنوباً).
- مار مارون الجميزة مدور مار نقولا (سرسق).
دير القمر
دير القمر المتجذرة في التاريخ, واحدة من أجمل بلدات لبنان؛ تتميز بطابع ذي خصوصية عالية فهي أشبه بمتحف تراثي ووطني. ومن اجل الحفاظ على هذا التراث, تمّ تصنيف بعض المباني والأنسجة التاريخية التقليدية في دير القمر رسمياً, كما أن ملف إدراج الأجزاء التراثية في البدة على لائحة التراث العالمي قد قطع شوطاً مهماً وأشرف على نهايته.
أما الآلية الأهم الموضوعة للمحافظة على تراث دير القمر, فتحدث عنها مستشار بلدية دير القمر لشؤون العمارة والتنظيم المدني, المهندس فادي شنيارة, قائلاً: تعتمد البلدية التدقيق التراثي في طلبات رخص البناء والترميم, خصوصاً من النواحي المعمارية الجمالية, والإندماج مع الموقع, لذلك, تصرّ بلدية دير القمر على إرفاق الرخصة بملف تصويري خارجي وداخلي للبناء يبيّن المراد ترميمه.
الى ذلك تعتمد تدابير أخرى تتعلق بالمواد المستعملة في الترميم, وبمراعاة المقاييس المعمارية والتراثية والجمالية.
تشكل دير القمر, من خلال أحيائها التاريخية القديمة, مجموعة فريدة من نوعها مكوّنة من مجموعة أبنية شيّدت في الماضي ضمن أنسجة منسجمة وبقيت مكتملة حتى اليوم.
من معالم دير القمر الأثرية على سبيل المثال لا الحصر, سراي الأمير فخر الدين المعني الثاني, القيصرية, ساحة الميدان, جامع الأمير فخر الدين المعني الأول, قاعة العامود, كنيسة سيدة التلة, عين أم نقولا, القبة, سوق السكافين القديم, الخرج, سراي الأمير يوسف شهاب وغيرها...
فعلى مرّ أربعة قرون, كانت دير القمر المركز السياسي والإقتصادي والثقافي الأهم في جبل لبنان. وهذه الحقبة المتألقة من تاريخ لبنان قد اورثتنا, الى القصور الساحرة, العديد من الأعمال المعمارية البالغة الدقة التي نجدها في البيوت مثل نوافذ المندلون والأقواس وسواها.
ومن بين هذه البيوت منزل آل اسطفان نعمة الذي يرقى الى أوائل نشوء دير القمر, وهو يعتبر أثراً يوازي في أهميته عمارتها الكبيرة من قصور وغيرها.
المختارة
في أحضان الشوف, إحدى أكثر المناطق اللبنانية عراقة, يشمخ قصر آل جنبلاط التاريخي, الذي تختزن حجاره فصولاً من التاريخ بأحداثه ومحطاته على مدى أربعة قرون.
يتألف قصر المختارة التاريخي العريق من ثلاثة مبان غاية في الإبداع.
يضم المبنى الأول أربعة طوابق بنيت في مراحل تاريخية مختلفة كما يشهد على ذلك إختلاف نوعية احجاره بين طابق وآخر.
في هذا القسم من القصر يوجد الدرج المعلّق الفريد من نوعه في العمارة اللبنانية.
المبنى الثاني يقطنه حالياً السيد وليد جنبلاط وكان يعرف باسم قصر الست ليندا شقيقة كمال جنبلاط. مدخله دار البركة عبر درج دائري مميز, يفصله عن المبنى الأول, دار متوسطة يعلوها ناووس أثري قديم وهو يتألف من طبقتين.
المبنى الثالث الذي لم يرمم بعد, يتألف من طبقتين, الطبقة الأولى منه تضم عقوداً متنوعة والثانية حوشاً داخلياً, والواضح أنه بني في فترة زمنية واحدة, وأعمال الترميم فيه تتم وفقاً للمواثيق والقوانين الدولية كميثاق البندقية وقوانين الأمم المتحدة للحفاظ على طابعه الأثري.
للحفاظ على طابع البلدة النموذجي, يقول رئيس بلدية المختارة روجيه جورج العشي, ان المباني الموجودة في البلدة قد تم بناؤها بالحجر الطبيعي والقرميد وقد عمدت البلدية مؤخراً الى “تلبيس الأدراج بالحجر الطبيعي لكي تعطيها طابعاً أثرياً مميزاً يتجانس مع المحيط ويعيد أصالة الماضي”.
المتين
إذا كان التراث المعماري لشعب ما يعكس صورة ماضيه وثقافته, فالهندسة المعمارية اللبنانية تدل على طريقة عيش خاصة تقوم على حوار متناغم بين الإنسان والطبيعة. هذا الكلام ينطبق على قرية المتين التي فيها منازل وقصور عايشت مختلف العصور وهي تشكل نموذجاً فريداً من نوعه يعكس جمال الفن المعماري.
ومن أبرز معالم المتين, ساحتها التي اشتهرت بساحة “الميدان”.
وبحسب دراسة أعدها المهندس المعماري عصام سلامة إبن بلدة المتين, كانت الساحة ملعباً لخيل الأمراء اللمعيين وذلك عربوناً لامتنانهم من الأمير حيدر شهاب الذي تحالف معهم في معركة عين دارة عام 1711. في تلك الفترة, شيّدت أربعة قصور أحاطت بالساحة التي تبلغ مساحتها 5000 م2 وفيها كانت تجري جميع الإحتـفالات منـذ القـرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر.
ويقسم “الميدان” الى ثلاثة أقسام, الأول مخصص لجلوس الأمراء والثاني للمحكومين بالإعدام والثالث للأميرات.
في العام 1860, اضطر الأمراء اللمعيون ان يبيعوا قصورهم لأهالي القرية, وبقي “الميدان” ساحة المتين ومركز نشاطات القرية الرياضية والمسرحية وحفلات الزجل. وقد ساهم موقعها الجغرافي بنمو نشاطها الإقتصادي المتزايد...
وعلى الرغم من أن الحرب شوّهت الطابع التاريخي لتلك الأبنية الأثرية, إلا أن ساحة “الميدان” ما زالت, حتى يومنا هذا, تستقطب أنظار السيّاح والتجار نظراً لفنها المتميز.
صليما
تتهيأ صليما للعودة الى الحياة الطبيعية, ويستعد أبناؤها لترميم بيوتهم وإعادة إعمارها, لتعود قرية هانئة تستريح في قلب المتن الأعلى بين أحراج الصنوبر, وبساتين الزيتون. إلا أن حركة الإعمار في صليما ترتدي طابعاً خاصاً يميزها عن بقية قرى العودة التي سبقتها, لأنها ستكون عودة الى الجذور والتراث, مدموغة بطابع المحافظة على الهوية والذاكرة.
صليما قرية جميلة جداً يعود تاريخها الى عهد الخلفاء الأمويين, وينتشر فيها عدد من المعالم التراثية, ولا سيما سرايا الأمراء اللمعيين التي أعيد ترميمها عام 1796, ومعبد الدروز, وكنيسة مار يوحنا المعمدان المشيدة نحو عام 1600, وبيت أنطونيوس البشعلاني أول مغترب لبناني الى الولايات المتحدة, ومطبعة الورقاء, ومدرسة لبنان الكبير, إضافة الى كرخانات الحرير العديدة التي أصبحت نادرة جداً في لبنان, وغيرها... كما تتمتع بنسيج عمراني منسجم, وطابع هندسي تقليدي لا يزال محفوظاً, فمعظم البيوت القديمة نجت من الدمار الكلي.
كل هذه المميزات العمرانية, بعثت فكرة إعادة إعمار الضيعة طبقاً للمعايير والأصول التي تحفظ التراث والطابع الريفي... وهذا الأمر يتطلب إجراءات وقرارات إستثنائية. لهذا, تمّ تشكيل لجنة مشتركة من وزارة الثقافة و”جمعية المحافظة على المواقع والبيوت القديمة” (أبساد), ضمّت ثلاثة مهندسين معماريين هم: جاد تابت وحبيب الدبس وهناء علم الدين حيدر, لإجراء مسح شامل في صليما على المباني, وتم تحديد البيوت التراثية فيها وفق معايير محددة, كأن يكون البيت مبنياً من حجر العقد, وله طابع معماري مميز من الناحية الهندسية وطريقة البناء وغيره... ووضعت لائحة بنحو 50 بيتاً تم اعتبارها تراثية من أصل 300 تقريباً.
ولتشجيع الأهالي على المضي قدماً والسير في هذا المشروع الحضاري, قررت “أبساد” مدّ يد العون عملياً ومساعدة من يوافق منهم على إلتزام هذه الشروط الهندسية, إذ سيقدم مهندسوها المعماريون استشاراتهم مجاناً للأهالي والمهندسين والمتعهدين في المنطقة, كذلك أجرت اتصالات بالجمعية الأهلية الفرنسية “تراث بلا حدود” التي أقرت “مشروع صليما” واعتمدته مشروعها الرئيسي لسنة 2001, وستساهم بموجبه في ترميم الساحة العامة في القرية وتأهيل الواجهات فيها.
من ناحية ثانية, يلفت أحد الخبراء المشاركين في الشق الإقتصادي من الدراسة, الى أنها بيّنت حتى الآن أن الأمل الوحيد للإقتصاد المحلي في تلك المنطقة, هو المحافظة على الطابع التراثي والمعماري والطبيعي والبيئي فيها الذي فقدته القرى والبلدات المجاورة بفضل غزو الإسمنت لها, مما أفقدها الطابع القروي.
دوما
دوما بلدة أخرى من أجمل بلدات لبنان, تتمتع بموقع جغرافي مميز وبطبيعة خلابة الى بيوتها التراثية الجميلة والتي يعود قسم منها الى القرن السابع عشر.
تقسم هذه البيوت بحسب المهندس أنطوان فشفش الى ثلاثة أقسام: في القسم الأول نجد البيت التقليدي بشكله المستطيل وسطحه من التراب والخشب. وفي القسم الثاني البيت المؤلف من غرفتين يتوسطهما ليوان. أما القسم الثالث والذي يضم فئة البيوت الأكثر إنتشاراً في دوما, ففيه البيوت ذات البهو الوسطي والتي تزين واجهتها الرئيسية ثلاثة قناطر, وسطوحها غالباً ما تكون مكللة بالقرميد.
الطابع المميز للبلدة دعا بلديتها الى اتخاذ العديد من التدابير للحفاظ على النسيج العمراني القائم فيها, والحد من أعمال الترميم التي لا تتفق مع مقاييس الحفاظ على هذا الإرث المعماري الجميل.
جونية
ونعود الى الساحل, الى جونية التي تستأثر بجمال فريد من نوعه على شاطئ المتوسط, والتي تستمد سحرها من موقعها الطبيعي فقط, فهي أيضاً تحتضن تراثاً معمارياً مهماً. وإن كانت مستلزمات النمو والتطوّر قد غيّرت وجه المدينة, فثمة في أنحائها أيضاً من المباني الأثرية ما يبوح بأسرار الماضي وجماله.
سوق جونية القديم بأبنيته التراثية وقناطر العقد فيه حافظ على طابعه ورونقه وشكل إطاراً مميزاً لمهرجان سنوي انطلق العام الماضي تحت عنوان “تمشّى وسهار”. خلال المهرجان الذي يمتد من أول حزيران الى آخر أيلول, يصبح السوق في الليل ملكاً للمشاة وتمنع السيارات من دخوله. والى التسوق يستمتع الزوار بنشاطات فنية وثقافية. وبذلك يتكامل التراث مع النمو الإقتصادي كما تقول السيدة ساميا صفير من جمعية أبساد التي تتعاون مع بلدية جونية وهيئات أخرى في إطار الحفاظ على التراث المعماري للمدينة وإعادة إحيائه.
جبيل وعمشيت
ليس بعيداً عن جونيه, جبيل مدينة التاريخ العريقة والفريدة من نوعها بما تضمه من آثار وأبنية تراثية رائعة. حافظت على طابعها وجمالها, فجبيل كما هو معروف من أهم المواقع الأثرية ليس فقط في لبنان وإنما في العالم. وفي مشروع للأبساد يجري العمل على إعادة ترميم مبنى قديم في المدينة ليكون مركزاً ثقافياً وسياحياً تشمل نشاطاته جبيل وكسروان والبترون.
“فلتنتظرني إذاً تحت نخيل عمشيت, على أرض الغرائب القديمة, قرب مدينة بيبلوس المقدسة...”.
هذه الكلمات هي للمؤرخ أرنست رينان الذي أقام في عمشيت بين العامين 1860 و1861.
عمشيت تلك المدينة الصغيرة التي تقع على مسافة 3 كلم شمال مدينة بيبلوس والمصنّفة “تراثاً وطنياً” منذ عام 1992, لم تفقد شيئاً من سحرها, والتجوال في شوارعها يستحق العناء. إنطلاقاً من موقعين في البلدة (الساحة والمعبور), تقودك الأزقة الصغيرة الى الأحياء الأنيقة حيث يندهش المرء في كل جولة بحقول الزيتون الجميلة, وبمجموعات النخيل التي تتمايل رشيقة, وبتفاصيل الهندسة المعمارية التي نفذها بروعة بنّاؤو الأعوام الغابرة.
ثمة كنائس تزهو بقبب أجراسها المتنوعة, وبيوت بسيطة مستطيلة الشكل ذات سقوف خشبية, وبيوت مربعة ذات سقوف قرميدية وقناطر مزجّجة, وبصورة خاصة, دور فسيحة تطل على ردهة رئيسية ترتكز على عارضات ذات أحجام مذهلة وينيرها مندلون وكوّات مستديرة تتلاعب من خلالها الأضواء.
وإذا أتينا على ذكر البيوت التراثية في عمشيت نجد أنها تمثل أشكالاً متعددة لحضارات بلدان مختلفة. فقصر أسعد لحود مثلاً هو نسخة عن قصر يلدز في تركيا. ومنزل آل وهبي يمثل بقسم كبير منه الهندسة الغربية الأوروبية الأرستقراطية. ومنازل آل زخيا ذات الرواق الداخلي المفتوح هي خليط من الحضارتين العربية والغربية في آن واحد. ومنزل آل سليمان يجمع بين طابعين هندسيين متقاربين, وهو يتميز بالبهو المركزي وبالقناطر الخارجية التي تزين الواجهة وبعتبة النوافذ ذات الطابع الهندسي اليوناني.
وعلى الرغم من إجتياح الباطون وبشكل كثيف للبلدة منذ العام 1950, يقول المهندس أنطوان لحود لحود (مهندس معماري متخصص في الترميم في الجامعة اللبنانية الأميركية) أن بعض الأحياء ما زالت تحافظ على طابعها ونسيجها العمراني القديم كحي المعبور وحي السيدة وقسم من الساحة العامة. كما أن أكثر من 35 منزلاً في عمشيت اليوم وضعت على لائحة الجرد العامة للمنازل الأثرية, وهذه الخطوة قام بها الأهالي بهدف الحد من هجوم الباطون والحفاظ على التراث المعماري في البلدة, والتأقلم مع المحيط البيئي والطبيعي.
صيدا
قصر دبانة في صيدا محطتنا الأخيرة. فهذا البناء العريق يعد نموذجاً للطراز العربي الذي إنتشر أيام الحكم العثماني. وهو يشهد أعمال ترميم بإنتظار صدور قرار بتصنيفه متحفاً يروي تاريخ مدينة صيدا.
يعود تاريخ بناء القصر حسب ما تشير نقوشات على جدار الديوان فيه, الى العام 1721. وهو كان مقراً لوالي المدينة, في ما بعد سكنت القصر عائلة دبانة ردحاً من الزمن. وقد شهد اعتباراً من العام 1920 أعمال ترميم, وصنف في العام 1968 مبنىً تاريخياً.
يتألف البناء من جميع العناصر المكوّنة للدارة العربية في الحقبة العثمانية, فالتصميم الهندسي والفن الزخرفي مستوحيان من فنّ الهندسة المعمارية المتبع في المقامات التاريخية الدينية والمدارس القرآنية والمساجد.
وتحدّ الأجزاء الشرقية والشمالية الشرقية من الفناء غرفتان رئيسيتان: الليوان, وهو قاعة صيفية مفتوحة من جانب واحد برواق له قناطر؛ والقاعة, وهي ردهة الاستقبال المؤلفة من فسحة مركزية على شكل T تتوسطها عين تحيط بها ثلاث غرف متاخمة أو ما يعرف بـ”الديوان”, وهي القاعة الرئيسية من الدار.
وتتميز الدواوين بارتفاع أرضيتها أو ما يسمى “العتبة”.
وفي العام 1999 أنشئت مؤسسة دبانة التي تقضي مهامها بتأهيل القصر وتحويله الى متحف. تقول السيدة مونيك مرقدي أن المهمة اقتضت الإستعانة بمهندسين من إيطاليا وفرنسا وحرفيين من دمشق, بحيث يستعيد القصر مكانته التراثية المرموقة, ويصبح محطة سياحية تجذب إليها الزوار من مختلف الأنحاء.
التراث والإقتصاد
“التراث جزء أساسي من ثروتنا الوطنية والحفاظ عليه ليس مناقضاً للنهوض الإقتصادي أو العقاري, إنما هو شرط مسبق له وبالتالي فإن على المقاولين أو المتعهدين أن يعرفوا أن سعر المتر المربع من العقار سيتحسن إذا كان بجانب موقع أثري أو محيط جميل أو محيط تراثي. لا تناقض على الإطلاق بين ما هو إقتصادي وبين ما هو أثري, بل على العكس سيكون هناك تكامل وتكافل, لأن هذا البلد لن يتمكن من إرضاء أهله المقيمين فيه ولا من إستقدام السياح إليه إذا لم يعط المثل في الإهتمام بتراثه لإحياء السياحة الثقافية ولإحياء النهوض الإقتصادي”. هذا الكلام لوزير الثقافة غسان سلامة جاء خلال إفتتاحه معرض “فن العمارة التراثية” في لبنان, الذي نظمته المؤسسة الوطنية للتراث لمناسبة يوم التراث الوطني في السادس عشر من أيار الماضي. |